تأثير التربية في النمو الاجتماعي والاقتصادي
لابد لنا قبل الكلام في تأثير التربية في النمو الاجتماعي والاقتصادي من تحديد معنى النمو الذي أردناه هنا. ليس النمو زيادة في الكم فقط، وإنما هو زيادة في الكم مصحوبة بتغير في الكيف، فلا يكفي إذن أن يعظم حجم المجتمع حتى يوصف بالنمو، بل يجب أن يصحب هذه الزيادة في الحجم تبدل في الوظائف، وتنوع في التركيب.
مثال ذلك أن النمو الاقتصادي لا يقاس بفخامة الإنتاج الزراعي أو الصناعي فحسب، بل يقاس بجودة نوعه أيضا، وكذلك النمو الاجتماعي فهو لا يقتصر على توفير الحد الضروري من العيش لكل فرد من أفراد المجتمع، بل يعمل على خلق بيئة اجتماعية راقية توفر لأفرادها حياة أفضل. وما يقال عن النمو الاجتماعي والاقتصادي يقال عن النمو التربوي، فإن هذا النمو لا يقاس بعدد المدارس وعدد التلاميذ والمدرسين فحسب، بل يقاس كذلك بنوع التعليم وكيفيته وملاءمته لحاجات الفرد والمجتمع. ومتى جمعت التربية بين الكم والكيف في وزن واحد وصفت بالنمو الحقيقي. واشتملت على ما يريده الفرديون من تربية الشخصية الإنسانية لذاتها، وعلى ما يريده الاجتماعيون من تربية هذه الشخصية من أجل الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
إن لكل مجتمع إنساني – متقدما كان أو متأخرا – نظاما تربويا يخصه، وسبب ذلك أن المجتمع لا يبلغ غايته إلا إذا عني بتربية أطفاله، وليس في طبائع هؤلاء إذا ظلوا على الفطرة ما يمكنهم من الاندماج التام في مجتمعهم، فكأن وظيفة الكبار في كل زمان ومكان هي تدريب الصغار على كل ما يحتاجون إليه من أنماط السلوك حتى يصبحوا صالحين للحياة في المجتمع، ولا يكتب للمجتمع البقاء إلا إذا حرر أفراده من سيطرة القوى الطبيعية، وعمل على كبت غرائز أطفاله، حتى يرقى بهم إلى رتبة من الحياة يمكن تسميتها "الرتبة الروحية".
وليس في طبيعة الطفل الحيوانية ما يمكنه من هذا التحرر، فإذا كان الطفل يستطيع أن يتحرر من طبيعته الحيوانية فمرد ذلك إلى التأثيرات الخارجية التي يتلقاها من المجتمع، فكل تربية إذن عمل اجتماعي بالذات. وهي تؤثر في المجتمع وتتأثر به، لأنه لا مجتمع دون تربية، ولا تربية دون مجتمع. أما المجتمع فهو في حاجة إلى تربية أطفاله في سبيل بقائه، وتجديد حياته، وأما الأطفال فهم في حاجة إلى مجتمع يصونهم، ويسهل أسباب نموهم وتقدمهم، ولابد في كل نظام تربوي- مهما يكن نوعه- من تحقيق هاتين الغايتين : أعني بقاء المجتمع من جهة، وتحقيق نمو أفراده من جهة ثانية.
ثم إن بين التربية والحياة الاقتصادية تأثيرا متبادلا. فالنمو الاقتصادي يؤثر في التربية، لأنه يسمح للأفراد باستغلال أوقات فراغهم في الشؤون الثقافية. ولدليل على ذلك أن عصر الازدهار التربوي في الحضارة اليونانية والحضارة العربية كان عصر رخاء اقتصادي، فلما انحطت الحياة الاقتصادية في أوربا خلال القرون الوسطى لم يبق هنالك متسع من الوقت، ولا وفر من الثراء لمتابعة الحركة العلمية، على عكس العصور الحديثة التي تقدمت فيها الحركة التربوية والعلمية بتقدم الحياة الاقتصادية.
والتربية تؤثر في النمو الاقتصادي، والدليل على ذلك أن تطور بنية العمل مصحوب بتحسن دائم في مؤهلات الأفراد العاملين في القطاعات الاقتصادية المختلفة. وهذا التحسن في المؤهلات ناشئ عن نمو التربية، فلا غرو إذا كان التعليم في نظر علماء الاقتصاد عاملا من عوامل الإنتاج، لا صورة من صور الاستهلاك.
وللتربية في لغة التخطيط معنيان: الأول هو التربية العامة، أو الثقافة العامة، والثاني هو التربية المهنية أو التقنية، ولهذين النوعين من التربية تأثيرهما في إعداد الطبقة العاملة. لأن قدرة العامل على إتقان عمله رهن بدرجة تعلمه، ونوع تربيته. إن ثقافته العامة تقوي قدرته على الفهم والتكيف والمبادرة والاختراع، فإذا أراد الانتقال من عمل إلى آخر، أو من وظيفة إلى أخرى وجد في ثقافته العامة ما يسهل عليه هذا الانتقال. إن التربية تعين على اصطفاء أحسن العناصر الصالحة للعمل، تهيئ لجميع قطاعات المجتمع أطرها الفنية والإدارية. وإذا اعتبرنا التربية استهلاكا وإنتاجا معا، أمكننا أن نقول أنها تعد الفـرد للاستمتاع بالحياة من جهة، ولكسب الرزق من جهة ثانية، ومن الصعب علينا أن نفرق بين هذين الغرضين. إن من شروط الإعداد المهني الصحيح أن يسبقه أو يصحبه إعداد ثقافي عام، يجعل العامل أو المهندس أو الطبيب إنسانا قبل كل شيء، أعني إنسانا متصفا بالمرونة الفعلية التي تمكنه من مواجهة المواقف الجديدة في يسر. فما بالك إذا كانت سرعة التطور العلمي والصناعي تجعل شروط العمل المهني أكثر تغيرا مما كانت عليه في الماضي، إن سنة واحدة من التغيرات الحاضرة تعادل مئات السنين من التغيرات الماضية، والوسيلة التي تجعل العامل أحسن تقبلا للتغير، وأقدر على التكيف هي الثقافة العامة.
والله الموفق
14/04/2012
بقلــم : محمد الشودري